نستكمل جولتنا الاستكشافية في عالم الألعاب:

Disco Elysium: معضلة الوجود الإنساني

ما الذي يحدد جوهر الإنسان؟ وما هي العناصر التي تشكل هويتنا؟

ias

قد يتبادر إلى الذهن أن ألعاب التحري يجب أن تتضمن عنصرًا من التشويق والإثارة، ولكن Disco Elysium تتجاوز هذه التوقعات إلى آفاق أبعد وأعمق. إنها ليست مجرد حكاية بوليسية تتمحور حول حل لغز جريمة، بل هي بالأحرى رحلة نفسية ووجودية آسرة. تمزج اللعبة ببراعة بين فقدان الهوية، والانهيار الشخصي، والتساؤلات الفلسفية العميقة، والقضايا السياسية المعقدة، والتعبير الصارخ عن الألم والمعاناة الإنسانية.

تجربة اللعبة للمرة الأولى كفيلة بأن تسلب النوم من عينيك، ليس فقط بدافع الفضول لمعرفة الأحداث القادمة، بل لأنك تجد نفسك فجأة غارقًا في بحر من التساؤلات الوجودية التي تتجاوز حدود الشاشة. من هو هذا المحقق المهمل والمنهار؟ ولماذا لا يحظى بالاحترام الذي يستحقه؟ ما هي الأحداث التي شكلت ماضيه المضطرب؟ أين اختفت زوجته؟ ولماذا توجد جثة هامدة معلقة على شجرة خلف مقهى متواضع؟ هذه الأسئلة تتدفق على اللاعب منذ اللحظات الأولى، لتغرس فيه شعورًا مستمرًا بالضياع والحيرة.

مع كل حوار جديد تخوضه، ومع كل قرار تتخذه، تظهر بعض الخيوط التي تكشف عن جوانب من القصة، ولكنها في الوقت ذاته تثير أسئلة أعمق وأكثر تعقيدًا. Disco Elysium لا تقدم إجابات جاهزة أو حلولًا سهلة، بل تغريك بالانغماس أكثر في عالمها المظلم والمتشظي، حيث تمثل كل شخصية تقابلها مرآة تعكس جزءًا من فوضى البطل أو صدى لكوابيسك الشخصية. ومع كل خطوة تخطوها، تكتشف أن مهمتك لا تقتصر على حل جريمة قتل، بل تتعداها إلى البحث عن تعريف جديد لمعنى أن تكون إنسانًا محطمًا يحاول النهوض مرة أخرى في عالم يعاني من التصدع والانهيار.

Layers Of Fear: سيمفونية الرعب النفسي

عندما نتطرق إلى ذكر الألعاب التي تخطف الأنفاس وتثير الرعب في النفوس، لا يمكننا أن نتجاهل تلك التي تبقينا مستيقظين ليس فقط بدافع الفضول، بل بسبب الخوف الحقيقي. بعض الألعاب تمنعك من النوم بسبب تدفق الأدرينالين الناتج عن استكشاف منزل مسكون بالأشباح، وLayers Of Fear تقدم هذه التجربة المرعبة في حكاية واحدة مروعة وغنية بالرعب النفسي.

تبدأ اللعبة باستيقاظك داخل قصر فخم، حيث تجسد دور رسام موهوب، وكل ما تعرفه هو أن هناك شيئًا مريبًا يحدث من حولك. منزلك الفاخر، الذي كان ملاذًا للسكينة والإلهام، أصبح الآن يعج بالظلال المتحركة والأصوات الغامضة. كل غرفة تفتحها تكشف عن جزء جديد من لغز عائلي معقد ومليء بالأسرار.

بينما تتقدم عبر الممرات الملتوية واللوحات المشوهة، تبدأ اللعبة في الكشف عن طبقات خفية من ماضيك المأساوي. كل تفصيلة صغيرة – من الرسائل القديمة المنسية إلى الرسومات الغريبة والمريبة – تحمل دلالة عاطفية عميقة أو تلميحًا مبطنًا حول اختفاء زوجتك وابنتك، أو حتى حول فقدانك لعقلك واستسلامك للجنون. اللعبة لا تكتفي بسرد القصة، بل تمنحك الفرصة لترويها بنفسك من خلال خياراتك واستكشافك الدقيق، وكأنك ترسم لوحة شخصية لنفسك دون أن تدرك ذلك.

ومع اقترابك من كشف الحقيقة المرة، تبدأ الحدود بين الواقع والخيال في التلاشي والاضمحلال، ويبدأ المنزل نفسه في التلاعب بحواسك وعقلك، مما يجعل كل لحظة مليئة بالتوتر والتساؤلات المحيرة: هل ما أراه حقيقي أم مجرد هلوسات ناتجة عن عقل منهار يحاول التشبث بالمنطق؟ Layers Of Fear ليست مجرد رحلة رعب تقليدية، بل هي مرآة نفسية عميقة لشخص يتفكك ببطء داخل جدران منزله ولوحاته الفنية.

Death Stranding: ملحمة الوحدة والانعزال

خطوة تتبعها خطوة في عالم موحش

من المعروف أن أي مغامرة ينخرط فيها Hideo Kojima لا تلتزم بالتقاليد المألوفة، ومنذ اللحظات الأولى، بدا واضحًا أن Death Stranding ستمثل أكثر تجاربه تميزًا وتفردًا. إنها لعبة تتجاوز التصنيفات المعتادة وتتحدى المفاهيم الراسخة، وتقدم تجربة لعب لا تضاهيها أي تجربة أخرى. منذ اللحظة التي تبدأ فيها اللعب، تنطلق معها سلسلة لا تنتهي من التساؤلات حول طبيعة هذا العالم الغريب، ومعناه الخفي، وما الذي يخبئه لك القدر في كل منعطف.

تبدأ القصة بشخصية غامضة يجسدها Norman Reedus، يحمل جنينًا داخل حاوية شفافة على صدره ويشق طريقه عبر عالم مدمر وممزق، كعامل توصيل في مستقبل بائس. الفكرة تبدو غريبة ومثيرة للدهشة، ولكن الغموض لا يتوقف عند هذا الحد. هناك أطياف غريبة وكائنات خارقة تهدد رحلتك المحفوفة بالمخاطر، ومناظر طبيعية شاسعة تبعث على الشعور بالوحدة والرهبة.

رحلة Death Stranding ليست مجرد رحلة جسدية مضنية، بل هي أيضًا رحلة نفسية وفكرية عميقة. كل خطوة تخطوها على تلك الأراضي الصامتة تقربك من فهم أعمق لهذا الكون المتصدع، وكل مهمة توصيل تقوم بها تحمل مغزى أعمق من مجرد تسليم طرد. كل لقاء مع شخصية جديدة يحمل رسالة رمزية، وكل مشهد سينمائي يتركك تتساءل: ما هو الهدف من كل هذا؟ وهل نحن نعيد بناء العالم حقًا أم أننا نحاول فقط إخفاء كسوره تحت طبقة خارجية لامعة؟

الجميل في Death Stranding هو أنه في كل مرة تعتقد أنك فهمت اللعبة، يفاجئك Kojima بعنصر جديد يغير كل شيء. إنها لعبة لا تتوقف عن التجدد والابتكار، ولا تمنحك لحظة راحة، بل تدفعك باستمرار للبحث عن المعنى الخفي في كل شيء، خطوة بخطوة، حتى تصل إلى النهاية التي ستظل تفكر فيها مليًا بعد انتهاء الرحلة.

Mouthwashing: كابوس في الفضاء السحيق

عادةً ما تتميز الألعاب النصية التي تدور أحداثها في المستقبل وتعتمد على حل الألغاز بجو من الغموض الهادئ والتفاصيل الذكية، ولكن لعبة Mouthwashing قلبت هذه المفاهيم رأسًا على عقب وقدمت تجربة خنقت أنفاس اللاعبين منذ لحظاتها الأولى. تبدأ القصة على متن ناقلة بضائع فضائية، في عالم مستقبلي يبدو مألوفًا بقدر ما هو غريب ومثير للريبة. ولكن سرعان ما تتحول الرحلة الروتينية إلى كابوس مرعب بعد تحطم السفينة بطريقة مفاجئة ومروعة.

من هنا تبدأ رحلة يائسة للبحث عن النجاة، ولكنها لا تقتصر على تأمين الطعام والماء والمأوى، بل تتعمق في كشف أسرار الطاقم والرحلة المشؤومة. كل اكتشاف جديد لا يحمل معه إجابات مطمئنة بل يكشف عن حقائق مروعة وقاسية عن أفراد الطاقم، وعن طبيعة المهمة الغامضة التي كانوا مكلفين بها. كل رسالة مشفرة وكل مذكرة تركها أحد أفراد الطاقم المفقودين تزيد من الشعور بالقلق والخوف، وتخلق جوًا متصاعدًا من التوتر والترقب.

ما يجعل Mouthwashing مرعبة حقًا ليس الوحوش الفضائية أو الأشباح المخيفة، بل الناس أنفسهم. اللعبة تسلط الضوء على القرارات المروعة التي يتخذها الإنسان عندما يوضع تحت ضغط هائل، وتكشف كيف يمكن للمواقف الصعبة أن تستخرج أسوأ ما في النفس البشرية. ومع كل لغز يتم حله، تظهر حقيقة جديدة أكثر إيلامًا من سابقتها، حتى تصل إلى النهاية الصادمة التي تتركك مشوشًا، مثقلًا بالأسئلة المحيرة، وربما، غير راغب في تكرار هذه التجربة المرعبة مرة أخرى. هذه ليست مغامرة تقليدية ممتعة، بل هي اختبار قاس للأعصاب لا يناسب أصحاب القلوب الضعيفة.